النتائج العملية المترتبة على الاختلاف في التأصيل العلمي لاختصاص النائب العام في المادة (211) إجراءات:
1- أن النائب العام غير ملزم قانوناً أن ينظر ما يعرض عليه من طلبات بإلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، فهو ليس جهة طعن على القرار كغرفة المشورة.
2- لا يجوز للنائب العام إلغاء الأمر بألا وجه إقامة الدعوى، إذا كان صادراً من النائب العام المساعد أو المحامي العام الأول، كما ورد بالفعل بالعديد من كتب الفقه ولكن دون ذكر السبب، والسبب –عندنا – أن هؤلاء على نفس مستوى النائب العام من الخبرة القانونية، والعمل الولائي من قاض إلى آخر، لا يكون من قاض إلى قاض أقل منه خبرة.
3- لا يجوز للنائب العام إلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، إذا كان منعدماً، وعلة ذلك أن القرار القضائي المنعدم يعني أن ثمة خطأً جسيماً وقع فيه عضو النيابة العامة، والخطأ الجسيم لا يتصور أن يكون محلاً ينصب عليه القرار الولائي، لأن العمل الولائي – في هذه الحالة – ينطوي على نقد وتجريح وهو أمر يأباه طبيعة العمل الولائي، كما يأباه أيضاً انتفاء الصفة الرئاسية للنائب العام تجاه عضو ا لنيابة وهو يباشر سلطة التحقيق.
4- أن ميعاد الثلاثة أشهر المنصوص عليه في المادة (211) إجراءات، ليس ميعاد سقوط،
كما ورد بكتب الفقه، لكنه ميعاد تنظيمي فقط وذلك طبقاً لكل من قواعد التفسير اللغوي أو قواعد التفسير المنطقي.
أ. فبالنسبة لقواعد التفسير اللغوي: فالمشرع يقصد الثلاثة أشهر التالية لشهر صدوره وليس ليوم صدوره، كما يعتقد الفقه والقضاء، فالصفة تتبع الموصوف.
يؤيد صحة ذلك، أن نفس الصياغة تقريباً وردت في المادة (543) في الباب التاسع الخاص برد الاعتبار، وغنى عن البيان، أن الميعاد المذكور في هذه المادة، لا يتصور إلا إن يكون ميعاداً تنظيمياً وليس ميعاد سقوط، فقد وردت عبارة "في الثلاثة أشهر التالية".
وإذا كان المشرع قد أضاف على هذه الصياغة لفظة "مدة" في المادة (211) إجراءات فهذا ليقرب هذا الميعاد من ميعاد السقوط أو بتعبير أدق أراد المشرع في المادة (211) إجراءات أن يلزم النائب العام بهذا الميعاد، لكنه – فقط – التزام أدبي وليس التزاماً قانونياً وكأن المشرع يريد أن يقول، أنه بالرغم من أن هذا الميعاد هو ميعاد تنظيمي وليس ميعاد سقوط، فعلى النائب العام، بقدر الإمكان أن يلتزم بهذه المدة، حتى يستقر المركز القانوني للمتهم، فلا يظل قلقاً ومضطرباً.
ب. بالنسبة لقواعد التفسير المنطقي: أن القرار الولائي الصادر من النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه لن يرتب أثراً قانونياً بمفرده، وإنما سوف يرتد مرة أخرى إلى مصدر الأمر بألا وجه ليعمل هو آثاره في مواجهة الخصوم.
وفي حكم حديث لمحكمة النقض، أبقت المحكمة على أمر بألا وجه لإقامة الدعوى لأن النائب العام ألغاه بعد فوات ثلاثة أشهر وثلاثة أيام من صدوره، أي أنها ألغت قرار النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه، لأنه صدر بعد الميعاد المنصوص عليه في المادة (211). وفي هذا الحكم يظهر بوضوح التباين في الرأي بين محكمة النقض والنائب العام بالنسبة لميعاد الثلاثة أشهر فالنائب العام يرى أن هذا الميعاد هو ميعاد تنظيمي بينما ترى محكمة النقض أنه ميعاد سقوط.*
5- القرار الصادر من النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى طبقاً للمادة (211) إجراءات، هذا القرار يرتد إلى النيابة التي أصدرته لتعمل – هي – آثاره، في مواجهة المتهم، وهي بين خيارين:
أ – إما أن توافق على قرار النائب العام فيتحول القرار الولائي الصادر من النائب العام إلى قرار قضائي فيتحقق بذلك الإلغاء الفعلي للقرار، وليس صحيحاً أن إلغاء الأمر بألا وجه قد تم لأنه عند صدوره كان حائزاً لحجية مؤقته – كما يذهب إلى ذلك الفقه والقضاء – ولكن إلغاء الأمر بألا وجه قد تم بناء على فكرة قانونية أخرى هي مبدأ عدم استنفاد القاضي سلطته فيما فصل فيه. فالأمر بألا وجه صدر حائزاً لحجية شأنها شأن الحجية التي يحوزها أي حكم قضائي يؤكد صحة ما نذهب إليه، أنه خلال الفترة الزمنية ما بين صدور قرار النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه، وموافقة مصدر القرار على قرار النائب العام.
خلال هذه الفترة الزمنية يمتنع على أي نيابة أخرى التحقيق في نفس الدعوى التي صدر فيها الأمر بألا وجه، وإن هي فعلت، فاللمتهم، أن يرفع الدعوى بعدم جواز نظرها لسبق الفصل فيها بقرار بألا وجه لإقامة الدعوى حائزاً للحجية، وذلك بالرغم من صدور قرار النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه طبقاً للمادة (211) إجراءات.
وهذا يؤكد ما سبق أن قلناه في المبحث السابق من أن الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى هو قرار قضائي يحوز الحجية. وليس ثمة ما يسمى حجية مؤقتة.
المبحث الثالث
إلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى
أمام غرفة المشورة
تنص المادة (210) إجراءات على "للمدعي بالحقوق المدنية الطعن في الأمر الصادر من النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى إلا إذا كان صادراً في تهمة موجهة ضد موظف أو مستخدم عام أو أحد رجال الضبط لجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها، ما لم تكن من الجرائم المشار إليها في المادة (123) من قانون العقوبات.
ويحصل الطعن بتقرير في قلم الكتاب في ميعاد عشرة أيام من تاريخ إعلان المدعي بالحق المدني بالأمر ويرفع الطعن إلى محكمة الجنايات منعقدة في غرفة المشورة في مواد الجنايات وإلى محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة في مواد الجنح والمخالفات. ويتبع في رفعه والفصل فيه الأحكام المقررة في شأن استئناف الأوامر الصادرة من قاض التحقيق".
وثمة تساؤلات طرحت نفسها، وتساؤل لا يزال يطرح نفسه بالنسبة لمدى دستورية فقرات هذا النص.
أما عن التساؤلات التي طرحت نفسها، فقد عرضت بالفعل على المحكمة الدستورية العليا وقالت فيها كلمتها، وبقى تساؤل لم يطرح بعد.
والمسائل الدستورية التي طرحت على المحكمة الدستورية لتقضي في مدى دستوريتها هي:
1- حظر طعن المدعي بالحقوق المدنية في قرار النيابة العامة بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية في تهمة موجهة إلى أحد الموظفين أو المستخدمين العامين لجريمة وقعت منه أثناء تأديته لوظيفته أو بسببها.
2- حرمان المتهم من الطعن على الأمر بألا وجه لعدم الأهمية بما يعد قصوراً تشريعياً.
3- حرمان المجني عليه الذي لم يدع مدنياً من الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى بما يعد قصوراً تشريعياً.
أما المسألة الدستورية التي لم تطرح بعد على المحكمة الدستورية، فهي مدى دستورية الفقرة الأخيرة من المادة (210) إجراءات التي تقرر أن الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى يتبع في رفعه والفصل فيه الأحكام المقررة في شأن استئناف الأوامر الصادرة من قاضي التحقيق، وذلك بعد ربطها بالفقرة الأخيرة من المادة (167) إجراءات التي تقرر أن تكون القرارات الصادرة من غرفة المشورة في جميع الأحوال نهائية وبعبارة أخرى، ما مدى دستورية القاعدة القانونية التي لا تجيز الطعن بالنقض في القرار الصادر من غرفة المشورة برفض الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى؟
وسوف نتناول هذه المسائل في أربعة مطالب:
المطلب الأول
حظر طعن المدعي بالحقوق المدنية في قرار النيابة العامة بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية في تهمة موجهة إلى أحد الموظفين أو المستخدمين العامين لجريمة وقعت منه أثناء تأديته لوظيفته أو بسببها:
تعرضت المحكمة الدستورية بالفعل لهذه المسألة الدستورية، حين طعن المدعي الدستوري بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (210) إجراءات، فيما تضمنه من عدم تخويل المدعي بالحقوق المدنية حق الطعن في أمر النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية الصادر في تهمة موجهة إلى موظف أو مستخدم عام لجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها، ما لم تكن من الجرائم المشار إليها في المادة (123) عقوبات.
وأسس المدعي الدستوري دعواه على مخالفة هذا النص لمبدأ المساواة أمام القانون لأنه يمنح الموظفين العموميين حصانة غير مقررة بالنسبة إلى غيرهم من المواطنين. ومخالفة النص كذلك للمادة (3) من الدستور التي تعقد السيادة للشعب وحده، والمادة (64) من الدستور التي تنص على أن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة، والمادة (65) التي تقرر خضوع الدولة للقانون كما أن النص حصن قراراً صدر عن النيابة العامة من رقابة القضاء بالمخالفة للمادة (68) من الدستور.
قضاء المحكمة الدستورية العليا :
قضت المحكمة برفض الطعن الدستوري، وأسست قضاءها على أن النص في المادة (210/أ) إجراءات جنائية على حظر طعن المدعي بالحقوق المدنية في قرار النيابة العامة بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية في تهمة موجهة إلى أحد الموظفين لجريمة وقعت منه أثناء تأديته لوظيفته أو بسببها – المطعون عليها – لا يتضمن تمييز بعض المتهمين على بعض، وإنما تحقيق غاية بعينها تتمثل في صون الآداء الأفضل للوظيفة العامة من خلال توفير ضمانة لازمة تكفل لمن يقوم بأعبائها أن يوزن ا لاتهام الموجه إليه بمقاييس دقيقة لا يكون معها العمل العام موطئاً لشهوة التشهير بسمعته أو الازدراء بقدره دون أدلة كافية تظاهر الاتهام وترجحه بما لا مخالفة فيه لمبدأ المساواة أمام القانون.
وأضافت المحكمة بأن نعي المدعي على النص المطعون عليه بمخالفته للمواد (3)، (64)، (65) من الدستور مردود عليه ، بأن الأصل في النصوص الدستورية أن المعاني التي تتولد عنها يتعين أن تكون مترابطة فيما بينها بما يرد عنها التناقض، وكان الدستور بعد أن نص في المادة (3) على أن السيادة للشعب وحده ، ضمن أن تكون ممارستها وحمايتها على الوجه المبين في الدستور، وكان الدستور قد خول المحكوم له الحق في الادعاء المباشر في حالة بذاتها هي جريمة الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية الواردة في المادة (72) منه، وفوض المشرع فيما عداها – وعلى ما تنص عليه المادة 70 – لتحديد الأحوال التي تقام فيها الدعوى الجنائية عن غير طريق الجهة القضائية، ويندرج تحتها الحق في الإدعاء المباشر، وكان المشرع في إطار هذا التفويض قد استبعد من نطاق الإدعاء المباشر أي جناية أو جنحة يكون الاتهام بارتكابها أثناء تأدية الوظيفة العامة أو بسببها موجهاً إلى أحد الموظفين العامين، وذلك لضمان الأداء الأفضل للوظيفة العامة. وكان النص التشريعي المطعون عليه متعلقاً بجرائم الوظيفة العامة واقعاً في إطارها، مستلهما الاعتبارات عينها التي قرر المشرع من أجلها استبعاد الإدعاء المباشر في مجال الجرائم الوظيفية وكان حظر الطعن متعلقاً بقرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية صدر عن النيابة العامة على ضوء تحقيقاتها، وكان هذا القرار قضائياً بمعنى الكلمة، فإن حظر الطعن فيه يدخل في نطاق السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق، بما لا مخالفة فيه لأحكام المواد 3، 64، 65 من الدستور.
وأضافت المحكمة: وحيث إن المدعي ينعى على النص التشريعي المطعون عليه إخلاله بالحق في التقاضي إذ منع المضرور من الجريمة التي ارتكبها موظف أو مستخدم عام أثناء تأدية وظيفته أو بسببها، من اللجوء إلى قاضيه الطبيعي لطلب التعويض من المسئول عن الفعل الضار، فضلاً عن القصاص منه.
وحيث إن هذا النعى مردود، ذلك أن المشرع وإن خول من لحقه ضرر من الجريمة أن يدعى بحقوق مدنية أثناء إجراء التحقيق، إلا أن اللجوء إلى القضاء الجنائي للفصل في الحقوق المدنية لا يعدو أن يكون استثناء من أصل اختصاص القضاء المدني بنظر الدعوى المتعلقة بها، بما مؤداه أن الأصل هو أن يكون الفصل في الدعوى المدنية بيد هذا القضاء بوصفه قاضيها الطبيعي. ومن ثم لا يكون النص التشريعي المطعون عليه قد حال دون لجوء المدعي بالحقوق المدنية إلى قاضيه الطبيعي.
وأضافت المحكمة: بأن ما ينعاه المدعي على النص التشريعي المطعون عليه من أنه حصن قراراً صدر عن النيابة العامة بالمخالفة للمادة (68) من الدستور، مردود بأن ما قررته هذه المادة من عدم جواز النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، لا ينسحب إلى القرارات القضائية ويندرج تحتها الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، إذ يعتبر قراراً قضائياً بمعنى الكلمة*.
رأي مخالف لقضاء المحكمة الدستورية العليا:
أولاً : نحن من جانبنا، لا نؤيد هذا القضاء، ونرى أن النص التشريعي المطعون عليه يمثل مخالفة دستورية من عدة وجوه. ونحن نعترض بشدة على القول بأن النص التشريعي لم يمنع المدعي بالحقوق المدنية من اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، لأن القضاء المدني هو صاحب الاختصاص الأصيل بنظر الدعوى المدنية وأن اختصاص القضاء الجنائي هو اختصاص استثنائي، لأن هذه المقولة إن كانت تصدق بالنسبة للدعاوي المدنية الناشئة عن بعض الجرائم، فهي لا تصدق بالنسبة لبعضها الآخر وعلة ذلك، أنه إذا كانت أركان المسئولية المدنية هي الخطأ والضرر وعلاقة السببية، وكانت الجريمة بأركانها الثلاثة المادي والمعنوي وعلاقة السببية تمثل ركن الخطأ في الدعوى المدنية التبعية للدعوى الجنائية، فإنه في كثير من الحالات يتعذر إثبات هذا الخطأ بوسائل القانون المدني وإنما يكون القاضي الجنائي هو الأقدر على إثباته بوسائل القانون الجنائي، ومن ثم يكون هذا القاضي – في هذه الحالات – قاضياً طبيعياً للدعوى المدنية الناشئة عن الجريمة إلى جانب القاضي المدني، يؤكد هذا النظر ويعززه، أن القاضي المدني يرتبط بالحكم الجنائي بالنسبة للوقائع التي فصل فيها هذا الحكم، وكان فصله فيها ضرورياً، وذلك طبقاً للمادة (102) من قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية وطبقاً لنص المادة (456) إجراءات جنائية، في حين أن القاضي الجنائي لا يرتبط بما يصدر عن القاضي المدني من أحكام.
ثانياً : إن قصر التقاضي في المسائل التي فصل فيها على درجة واحدة، وإن كان يدخل في إطار السلطة التقديرية للمشرع، إلا أن ذلك مشروط بأن يكون القرار القضائي الصادر في الدرجة الواحدة صادراً من هيئة قضائية أي من محكمة، وليس صادراً من النيابة العامة، لأن مثل هذا القرار لا يعد قراراً قضائياً نقياً على النحو الذي أوضحناه في المبحث التمهيدي, ومن ثم يجب أن يظل خاضعا لرقابة القضاء، وذلك ليس إعمالاً للمادة (68) من الدستور، لأننا لسنا بصدد قرار إداري، ولكن إعمالاً لنص المادة (165) من الدستور التي تقرر أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم، ومن ثم فإن القرار القضائي الذي يشوبه أي قدر من الصبغة الإدارية، يوجب على المشرع أن يفتح طريق الطعن فيه أمام المحاكم ليكتسب الصفة القضائية كاملة بتأييد المحكمة له إن كان قد صدر صحيحاً خالياً من أي عيب يبطله.
يؤكد صحة ما نذهب إليه أن المشرع الجنائي قد غاير في المعاملة التشريعية بين القرار الصادر من النيابة العامة برفض الإدعاء المدني ممن لحقه ضرر من الجريمة والقرار الصادر بذلك من قاضي التحقيق فأجاز للمدعي المدني الطعن في القرار الأول أمام غرفة المشورة حتى وإن كان المتهم (المدعي عليه) موظفاً عاماً، في حين حصن القرار الثاني، فجعله قراراً نهائياً غير قابل للطعن فيه. ولا شك أن هذه المغايرة في المعاملة التشريعية، تؤكد أن ثمة اختلاف في الطبيعة القانونية لكل من القرارين، فالقرار الأول هو قرار قضائي ذو صبغة إدارية، أما الثاني، فهو قرار قضائي نقي. والقول بغير ذلك يعني أننا بصدد مخالفة دستورية للإخلال بمبدأ المساواة بين فئتين من المدعين بالحقوق المدنية تماثلت مراكزهما القانونية بالنسبة لحق التقاضي.
أي أن إسناد المشرع سلطة التحقيق للنيابة العامة لا تجعل من عضو النيابة قاضياً. فعضو النيابة يستمد صفته من المركز القانوني للنيابة العامة في النظام الدستوري المصري، وعدم تحررها الكامل من التبعية للسلطة التنفيذية، وذلك على النحو الذي أوضحناه في المبحث التمهيدي.
ثالثا : إن المشرع في المادة (199 مكرراً) يجيز "لمن لحقه ضرر من الجريمة" الذي رفض طلبه بالإدعاء المدني أمام النيابة العامة، أن يطعن على قرار النيابة أمام غرفة المشورة، ويمنحه بذلك حماية قضائية على درجتين، مع أن المكتسب لصفة "لحقه ضرر من الجريمة" هو المضرور من الجريمة، ولكن ليس طبقاً للمجرى العادي للأمور، على النحو الذي أوضحناه في المبحث التمهيدي، لأن المكتسب لصفة "يدعي حصول ضرر" يكون قد اكتسب صفة المدعي المدني أمام سلطة الاتهام، ويكون قرار سلطة التحقيق بقبوله في التحقيق بهذه الصفة هو مجرد قرار كاشف وليس قراراً منشئاً، فكيف يسوغ القول أن يمنح المشرع "من لحقه ضرر من الجريمة" حماية قضائية كاملة، في حين أن المجني علين المضرور من الجريمة يحول المشرع بينه وبين الطعن على قرار النيابة العامة بألا وجه لإقامة الدعوى أمام غرفة المشورة، مع أنه الأحق بالحماية القضائية، لأن الضرر الذي أصابه ضرر مباشر وضرر مادي ونفسي معاً وهذا يعني إخلالاً بمبدأ المساواة بين اثنين من المتقاضين بتسوىء مركز المتقاضي الأحق بالحماية القضائية عن نظيره الذي يحتاج إلى درجة أقل من هذه الحماية.
رابعاً: إن المشرع يخول النائب العام اختصاصاً ولائياً بإلغاء الأمر بألا وجه الصادر من النيابة العامة طبقاً للمادة (211) إجراءات، وفي هذا النص إقرار ضمني من المشرع بوقوع قصور في تحقيقات أعضاء النيابة العامة، سواء من ناحية الواقع أو القانون، فإذا لم يقم النائب العام بمباشرة هذا الاختصاص الولائي نتيجة لانشغاله بأعماله القضائية الأخرى. ألا يعني هذا أن ثمة قرارات قضائية سوف تصدر من أعضاء النيابة العامة مشوبة بقصور في التحقيقات وسوف تتحصن لحظر القانون الطعن عليها من المدعي المدني أمام غرفة المشورة، الأمر الذي يعد انتقاصاً من حق التقاضي وإخلالاً بحق الدفاع أي مخالفة دستورية للمادتين (68)، (69) من الدستور.
المطلب الثاني
حرمان المتهم من الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى لعدم الأهمية طبقا للمادة (210) إجراءات
عرضت هذه المسألة على المحكمة الدستورية، حين طعن المدعي الدستوري بعدم دستورية نص الفقرة الأولى التي تقصر حق الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم الأهمية على المدعي بالحقوق المدنية دون المتهم، قد أخلت بمبدأى تكافؤ الفرص والمساواة، فضلاً عن إخلالهما بحق المتهم في محاكمة عادلة وإهداره لحق الدفاع.
قضاء المحكمة الدستورية العليا:
حكمت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة (210) إجراءات جنائية فيما تضمنته من قصر الحق في الطعن على الأمر الصادر من النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى لعدم الأهمية، على المدعي بالحقوق المدنية دون المتهم..
وأسست المحكمة قضاءها على "أن المدعي بالحق المدني والمتهم طرفان في خصومة جنائية واحدة بما يعد معه الاثنان في مركز قانوني متماثل في هذا المقام، فإذا اختص النص المطعون فيه المدعي بالحق المدني بحق الطعن على القرار بألا وجه، وحرم منه المتهم، كان ذلك إهداراً لمبدأ المساواة بما يناقض نص المادة (40) من الدستور. ومن ناحية أخرى، فإن حرمان المتهم من الطعن على القرار بألا وجه لعدم الأهمية يصادر حقه الدستوري في المثول أمام قاضيه الطبيعي ويهدر حقه في التقاضي لنيل الترضية القضائية المنصفة، ذلك أن القرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم الأهمية، فضلاً عن أنه لا يبرئ ساحة المتهم – على خلاف الحكم القضائي البات – كما لا يمنع صدور هذا الأمر النيابة العامة من العودة إلى التحقيق إذا ظهرت أدلة جديدة قبل انقضاء المدة المقررة لسقوط الدعوى الجنائية طبقاً لنص المادة (197) إجراءات. ومؤدى ما تقدم أن مصادرة حق المدعي في الطعن على القرار بألا وجه لعدم الأهمية من شأنه أن يجعل – في حالات معينة – مهدداً بإلغائه وإعادة التحقيق معه في أي وقت بما ينطوي على تغيير واقعي – وليس مجرد تغير نظري – في المركز القانوني للمدعي يفقد في ظله ضمانات الدفاع عن نفسه، ويعجز عن الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، فضلاً عن أن المتهم من حقه أن يناضل في سبيل إبراء ساحته والدفاع عن سمعته واعتباره. وسبيله في ذلك ووسيلته محاكمة عادلة يصدر فيها حكم قضائي نهائي بذلك، ومن ثم فإن النص المطعون عليه يخالف نصوص المواد 64، 65، 67، 68، 165 من الدستور*.
رأي مخالف لقضاء المحكمة الدستورية العليا :
نحن من جانبنا ننتقد بشدة هذا القضاء للأسباب الآتية:
أولاً : أن الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى لعدم الأهمية – كما أوضحنا في المبحث الأول – هو قرار يغلب عليه الطابع الإداري وليس قراراً قضائياً، ويصدر عن النيابة العامة كسلطة اتهام لا كسلطة تحقيق، ومن ثم لا يجوز الطعن عليه أمام غرفة المشورة لا من المدعي بالحقوق المدنية ولا من المتهم، وإلا كان بمثابة تدخل من سلطة التحقيق في اختصاص سلطة الاتهام.
ثانياً : أن طعن المتهم على الأمر بألا وجه لعدم الأهمية يجعل من الدعوى الجنائية دعوى تحفظية بما يخرجها عن أهدافها الأصلية التي تتمثل في تحقيق الردع العام والردع الخاص لحماية أمن المجتمع.
ثالثاً : أنه إذا صدر الأمر بألا وجه لعدم الأهمية من النيابة العامة لصالح أكثر من متهم في دعوى واحدة فإن طعن أحدهم على هذا القرار أمام غرفة المشورة، سيؤدي إلى نتيجة شاذة وغير منطقية وهو أن إلغاء غرفة المشورة لهذا القرار قد يؤدي إلى الإضرار بالمركز القانوني لمتهم آخر لم تكن لديه الرغبة في هذا الطعن لأن إلغاء الأمر بألا وجه سوف يؤدي إلى إعادة التحقيق معه، أي تسوئ مركزه القانوني. وهذا يعني أن المتهم الطاعن أمام غرفة المشورة، سوف يختصم في طعنه هذا متهم آخر أو أكثر، وليس فقط المدعي بالحق المدني، وهي نتيجة شاذة وغير منطقية.
المطلب الثالث
حرمان المجني عليه الذي لم يدع مدنياً من الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى
عرضت هذه المسألة الدستورية على المحكمة الدستورية حين طعن المدعي الدستوري أمامها بعدم دستورية نص المادة (210) إجراءات الذي قصر الحق في الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى أمام غرفة المشورة على المدعي بالحقوق المدنية دون المجني عليه الذي لم يدع مدنياً.
وأسس المدعي الدستورية دعواه على أن نص المادة (210) إجراءات جنائية المطعون عليه، فيه إخلال بمبدأ تكافؤ الفرص وعدوان على سيادة القانون، وإهدار لمبدأ المساواة وحق التقاضي بالمخالفة لنصوص المواد 8، 40، 64، 65، 67، 68 من الدستور.
وقضت المحكمة الدستورية برفض الدعوى، وأسست قضاءها على أن المشرع إذ قصر – بالنص المطعون عليه – الحق في الطعن على الأوامر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الصادرة من النيابة العامة على المدعي بالحقوق المدنية دون المجني عليه الذي لم يدع مدنياً . فذلك مرده إلى اختلاف المركز القانوني لكل منهما باعتبار أن الأول هو الشخص الذي أضير من الجريمة. وأراد أن يباشر حقه المدني بنفسه إلى جانب الحق الجنائي الذي تمثله وتباشره النيابة العامة . أما الثاني، فإنه – وإن كان قد أضير كذلك – إلا أنه ترك الأمر للنيابة العامة باعتبارها ممثلة للمجتمع فلم يدع مدنياً، وكان متاحاً له ذلك فأسقط بنفسه الحق الذي كان يمنحه له القانون. فضلاً عن أن المشرع لم يسلب المجني عليه الذي لم يدع مدنياً حق الاعتراض على الأمر الصادر بأن لا وجه لإقامة الدعوى. ومنحه حق التظلم إلى الجهات الرئاسية بالنيابة العامة. كما منح النائب العام سلطة إصدار قرار قضائي بإلغاء الأمر خلال مدة الثلاثة أشهر التالية لإصداره ومن ثم فإن النص المطعون عليه لا يكون قد انطوى على مخالفة لمبدأ المساواة أو إخلال بمبدأ سيادة القانون أو إهدار لحق التقاضي أو مصادرة لحق الدفاع*.
رأي مخالف لقضاء المحكمة الدستورية العليا:
نحن من جانبنا لا نؤيد هذا القضاء ونرى أن حرمان المجني عليه الذي لم يدع مدنياً من الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى يمثل حالة من الحالات التي يسميها الفقه الدستوري بالقصور التشريعي
أو الإغفال التشريعي وفي هذا الإغفال التشريعي مخالفة دستورية للمادة (68)، (69) من الدستور، لأن فيه انتقاص من حق التقاضي وإخلال بحق الدفاع. فليس صحيحاً ما ذهبت إليه المحكمة الدستورية في حكمها من أن المجني عليه الذي لم يدع مدنياً أسقط بنفسه الحق الذي كان يمنحه له القانون لأن التنازل عن الحق لا يفترض ولا يتصور أن يسقط حق المجني عليه في الطعن على الأمر بألا وجه طالما أن الحق في الدعوى الذي يحميه لم يسقط بعد بالتقادم. وإذا كان القانون يخول المجني عليه الذي لم يدع مدنياً أمام سلطة التحقيق أن يدعي مدنياً لأول مرة أمام قضاء الحكم. فكيف يسوغ القول أن يبيح القانون له ذلك ولا يبيح له الطعن على الأمر بألا وجه أمام الدرجة الثانية لقضاء التحقيق، وهي مرحلة سابقة على مرحلة قضاء الحكم؟!
يؤكد صحة ما نذهب إليه أن القانون القديم كان يسمح للمجني عليه بالطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى أمام غرفة المشورة إلى أن صدر التعديل التشريعي بالقانون رقم 107 لسنة 1962 فمنع المجني عليه الذي لم يدع مدنياً من مباشرة هذا الحق.
وقد انتقد الفقه الجنائي بالفعل هذا التعديل بسبب أن المدعي المدني ليس دائماً هو المجني عليه وإنما هو المضرور من الجريمة. وأن المجني عليه لشدة ما أصابه. قد لا يقدم على الإدعاء المدني مكتفياً بمراقبة التحقيق، حتى إذا ما أسفر عن صدور أمر بأن لا وجه، وهو تصرف لا يرضيه يكون له حق في الطعن عليه. وأنه من الغبن حرمانه من هذا الحق بمجرد أنه لم يدع مدنياً أمام سلطة التحقيق، كما أنه من الضروري إنصاف المجني عليه، وهو أولى بالرعاية من المدعي المدني، صاحب المصلحة المالية في الواقعة*.
والحقيقة أن استبعاد المجني عليه من حق الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى سواء الصادر من النيابة العامة أو من قاض التحقيق، هو تطبيق خاطئ من المشرع ومن المحكمة الدستورية لمبدأ الأثر الناقل للاستئناف، وعلة ذلك أن هذا المبدأ إن كان يصدق أمام قضاء الحكم فهو لا يصدق أمام قضاء التحقيق، فلا يصح تطبيقه إلا إذا كنا بصدد دعوى استئنافية، ونص المادة (210) لا يعبر عن استئناف لدعوى، صحيح أننا بصدد ثلاثة عناصر حاضرة هي الخصومة والسبب والمحل، وهو ما يوحي للبعض من ظاهر الأمر أننا بصدد دعوى ولكن في الحقيقة أن جوهر الدعوى ذاته غائب تماماً. فالدعوى هي وسيلة الحصول على الحماية القضائية، وقضاء التحقيق لا يمنح المدعي المدني حماية قضائية. ومن ثم فنحن في هذه الحالة لسنا بصدد أي نوع من الدعاوي، لا دعوى تقريرية ولا دعوى منشئة ولا دعوى إلزام، فكل ما يستهدفه المدعي المدني من سلطة التحقيق هو إصدار قرار تمهيدي بإحالة الدعوى الجنائية من ساحة قضاء التحقيق إلى ساحة قضاء الحكم حتى يتحول طلبه من إدعاء إلى دعوى.
وبعبارة أخرى فإن طلبات المدعي المدني أمام قضاء التحقيق هو مجرد إدعاء وليس دعوى بالمعنى الفني الدقيق للدعوى، واستئنافه لطلباته طبقاً للمادتين (162، 210) إجراءات هو استئناف للخصومة وليس استئناف للدعوى، فلا يوجد ما يسمى دعوى مدنية أمام قضاء التحقيق يؤكد صحة ما نذهب إليه، أن سلطة التحقيق حين تصدر قرارها بألا وجه لإقامة الدعوى لا تتعرض على الإطلاق للادعاء المدني، لأن ما يستهدفه المدعي المدني من قضاء التحقيق هو إصدار قرار تمهيدي بإحالة الدعوى الجنائية إلى قضاء الحكم وهو نفس ما تستهدفه سلطة الاتهام. ومن ثم فحين تقضي سلطة التحقيق بألا وجه لإقامة الدعوى، فإن قضاءها هذا ينطوي على رفض لطلب النيابة العامة والمدعي المدني معاً.
ولذا فقد كان حرص المشرع الجنائي ذاته ألا يستعمل عبارة الدعوى المدنية في الكتاب الأول من قانون الإجراءات الجنائية المتعلق بتنظيم الإجراءات أمام سلطتي الاتهام والتحقيق ولم تظهر لنا عبارة الدعوى المدنية إلا في الكتاب الثاني الذي ينظم الإجراءات أمام المحاكم.
خلاصة القول : إن طلبات المدعي المدني أمام قضاء التحقيق هو ادعاء وليس دعوى فالدعوى هي وسيلة الحصول على الحماية القضائيةن وقضاء التحقيق لا يمنح المدعي المدني حماية قضائية.
وأسمع صيحات الاحتجاج تتعالى مرددة أن المادة (169) إجراءات تمنح المدعي بالحقوق المدنية حماية قضائية من خلال استئنافه للأمر بألا وجه لإقامة الدعوى.
والحقيقة أن مثل هذا الاعتقاد يشدنا إلى البحث في التفسير الصحيح للمادة (169) إجراءات التي تنص على:
"إذا رفض الاستئناف المرفوع من المدعي بالحقوق المدنية عن الأمر الصادر بأن لا وجه لإقامة الدعوى جاز للجهة المرفوع إليها الاستئناف أن تحكم على المتهم بالتعويضات الناشئة عن رفع الاستئناف إذا كان لذلك محل".
والحقيقة أن الفقه الجنائي لم يتمكن من الفهم الصحيح لهذا النص فقام بتحوير النص وتغييره على نحو يخالف ما ورد بالجريدة الرسمية، ثم راح ينتقد النص.
فقد ذهب رأي في الفقه الجنائي وسايره بعد ذلك شباب الباحثين إلى القول "وقد نص القانون على أنه إذا رفض الاستئناف المرفوع من المدعي المدني عن الأمر الصادر بعدم وجود وجه، جاز للجهة المرفوع إليها الاستئناف أن تحكم عليه للمتهم بالتعويضات الناشئة عن رفع الاستئناف إن كان لذلك محل (المادة 169) إجراءات. ويتحتم بطبيعة الحال أن يدعي المتهم مدنياً بهذا التعويض وأن يثبت التعسف في استعمال حق المدعي المدني في الاستئناف. وهذا النص معيب لأنه يعطي لجهة من جهات التحقيق اختصاص يتعلق بقضاء الحكم*.
والتفسير الصحيح لهذا النص: أنه في حالة انتفاء المسئولية الجنائية للمتهم لأي سبب من الأسباب كانقضاء الدعوى الجنائية بالتقادم مثلاً أو توافر سبب من أسباب الإباحة، مع ثبوت المسئولية المدنية فإن الجهة المرفوع إليها الاستئناف يجوز لها أن تحكم على المتهم بالتعويضات الناشئة عن رفع الاستئناف وذلك بحكم ولائي يرتد بعد ذلك إلى القضاء المدني، ليعمل – هو – آثاره بحكم قضائي.
وهذا يؤكد صحة قولنا بأن قضاء التحقيق لا يمنح المدعي بالحق المدني حماية قضائية.
المطلب الرابع
ثمة مسألة دستورية خاصة بالمادة (210) إجراءات لم تطرح بعد على المحكمة الدستورية وهي مدى دستورية الفقرة الأخيرة من المادة (210) إجراءات التي تقرر أن الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى يتبع في رفعه والفصل فيه الأحكام المقررة في شأن استئناف الأوامر الصادرة من قاضي التحقيق وذلك بعد ربطها بالفقرة الأخيرة من المادة (167) إجراءات التي تقرر أن تكون القرارات الصادرة من غرفة المشورة في جميع الأحوال نهائية.
وبعبارة أخرى، ما مدى دستورية القاعدة القانونية التي لا تجيز الطعن بالنقض في القرار الصادر من غرفة المشورة برفض الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى؟
والجواب – عندنا – هو عدم دستورية هذه القاعدة القانونية، وعلة ذلك، هو أن المدعي بالحق المدني الذي يلجأ إلى القضاء الجنائي بالإدعاء المباشر، إذا رفضت دعواه المدنية أمام محكمة الموضوع (بدرجتيها) ينفتح أمامه طريق الطعن بالنقض على حكم محكمة الجنح المستأنف، في حين أن المدعي بالحق المدني الذي لجأ إلى تحريك الدعوى الجنائية أمام قضاء التحقيق بواسطة سلطة الاتهام – وهو الأصل في القضاء الجنائي – إذا صدر أمر بألا وجه لإقامة الدعوى من قضاء التحقيق في غير صالحه – وربما يكون صادراً في جناية وليس مجرد جنحة – فإن طريق الطعن بالنقض يكون منغلقاً أمامه، إذا رفض الطعن المقام منه في الأمر
بألا وجه لإقامة الدعوى أمام غرفة المشورة. الأمر الذي يعد إخلالاً بمبدأ المساواة بين فئتين من المدعين بالحق المدني تماثلت مراكزهما القانونية بالنسبة لحق الطعن بالنقض. أي مخالفة دستورية للمادة (40)
من الدستور.
وفضلاً عن ذلك، فإن انغلاق طريق الطعن بالنقض – هنا – يعد انتقاصاً من حق التقاضي وإخلالاً بضمانة الدفاع، أي مخالفة دستورية للمادتين (68, 69) من الدستور، لأنه إذا كان الهدف من الطعن بالنقض على الأحكام الانتهائية هو مراقبة محكمة النقض لصحة تطبيق القانون، فلا يسوغ استبعاد نوع من هذه الأحكام من هذه الرقابة دون مبرر.
ولا ينال من هذا النظر القول، أن ما يصدر عن غرفة المشورة برفض الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى هو قرارات وليس أحكام، إذ أن هذا القول مردود عليه، بأن الفارق هنا يتعلق – فقط – بالشكل وليس بالمضمون، فالحكم هو قرار قضائي أفرغ في قالب معين فاكتسب شكلية خاصة، والقرار هو حكم تحرر من هذا القالب فتجرد من هذه الشكلية.
وقد قررت المحكمة الدستورية العليا في أحد أحكامها "أن طرق الطعن في الأحكام لا تعتبر مجرد وسائل إجرائية ينشئها المشرع ليوفر من خلالها سبل تقويم اعوجاجها، بل هي في واقعها أوثق اتصالاً بالحقوق التي تتناولها، سواء في مجال إثباتها أو نفيها، ليكون مصيرها عائداً أصلاً إلى انغلاق هذه الطرق أو انفتاحها، وكذلك إلى التمييز بين المواطنين الذين تتماثل مراكزهم القانونية في مجال النفاذ إلى فرصها"*.
طارق محمود محمد جعفر
باحث قانوني
________________________________________
(1) Mangin, Traité de l'action rublique et de l'action civil en matière criminelle; Paris, 1837, T.1 No. 12.
Garraud (R); Op.Cit. T. 1, No. 89, P. 1980
(2) Faustin (H.); Op.Cit. T.1, No. 971, P. 556.
(3) أ. عدلي عبد الباقي – أ. فتحي عبد ا لصبور – أ. جندي عبد الملك
(4) حكم محكمة النقض بجلسة 13 مارس 1932 – مجموعة القواعد القانونية، ج2، رقم 342، ص492.
(5) Merle (R) et Vite (A): Op.Cit; No. 1009; Stefoni (G), Lenosserur (G) et Boulac (B); Op.Citk No. 1 Bouzat (P): Le role des organs de poursuite dans le process pénal; Rev. Intern. De Droi, Pénal, 1963, P. 141., Pordel (J): Droit Pénal, T. 2, Procédure Pénal, Paris, 1976, No. 109, Garraud (R): Op.Cit., T. 1. No. 150.
(1) Cass. Crim. 14 pluviose an IX, Merlin Recueil alphebetique de questions de droit, 1829, V. Ministère Public. Cité por Rassat (M.L); Op.Cit, P. 144.
(2) حكم النقض بجلسة 18/2/1935: مجموعة القواعد القانونية، ج3 رقم 336، حكم النقض بجلسة 2/12/1935 مجموعة القواعد القانونية، ج3، رقم 404
(4) حكم الإدارية العليا في 10/6/1978 – مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة في خمسة عشرين عاماً (1965-1980) ج1 رقم 74، 23، ص 139.
(5) د. جلال ثروت – د. محمود نجيب حسني – د. سليمان عبد المنعم.
(5) Rassot (M.L); Op.Cit; P. 145.
Goyet (F); Op.Cit; P. 13.
(6) د. أحمد فتحي سرور – د. محمود مصطفى – د. رؤوف عبيد – د. نبيل مدحت سالم – د. توفيق الشناوي.
(1) حكم النقض بجلسة 9/1/1961 – مجموعة أحكام النقض، س 12، رقم 7، ص58
(2) قرار تفسيري للمحكمة العليا بتاريخ أول أبريل 1978: مجموعة أحكام وقرارات المحكمة العليا، ج2 القسم ا لثاني، رقم3، ص 334.
(3) القرار التفسيري رقم 3 لسنة 26 قضائية "تفسير" بجلسة 7 مارس سنة 2004
بشأن تفسير الفقرة الثانية من الماد ة(24) من القانون رقم 73 لسنة 1956
(1) د. أحمد فتحي سرور – الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية – الناشر دار النهضة العربية
(2) حكم الدستورية العليا بجلسة 17 ديسمبر 1994 في القضية رقم 13 لسنة 15 قضائية دستورية.
(1) م (176) من دستور 1956 و م (153) من دستور 1964
(2) م (181) من دستور 1956 و م (158) من دستور 1964
(3) د. أحمد فتحي سرور – مرجع سابق.
(1) أنظر في ذلك بحثنا: حدود الاختصاص بالدعوى الدستورية بين القضاء العادي والمحكمة الدستورية العليا
(2) د. أحمد فتحي سرور – د. محمود نجيب حسني – أ. على زكي العرابي – د. محمود مصطفى – د. رؤوف عبيد
([16]) د. عبد الفتاح الصيفي – د. على راشد – د. محمد مصطفى القللي – د./ حسن المرصفاوي
([17]) أ. زكي العرابي – د. محمود مصطفى – د. إدوارد غالي
([18]) د. محمد مصطفى القللي – د. حسن المرصفاوي – د. مأمون سلامة
([19]) نقض 16 مايو سنة 1932 – مجموعة القواعد ج2، رقم 350، صـ540
نقض 14 مايو سنة 1957 – مجموعة الأحكام س8
(1) André Vitu, Op.Cit., P: 510 et Suiov, Michéle – Laure Rassat, Op.Cit; P: 221/
(2) Op.Cit., P:221.
(3) A. Glesener, Op. Cit., P: 358
([23]) د. عمر السعيد رمضان – د. مامون محمد سلامة - د. رؤوف عبيد
(2) د. أحمد فتحي سرور – د. توفيق الشناوي – د. على فاضل
([24]) الأستاذ أحمد عثمان حمزاوي: موسوعة التعليقات على قانون الإجراءات الجنائية، صـ382 وما بعدها.
([25]) الأستاذ على زكي العرابي: المبادئ الأساسية للتحقيقات والإجراءات الجنائية، صـ113 وما بعدها.
([26]) د. فوزية عبد الستار: الادعاء المباشر صـ125 وما بعدها – ا لناشر، دار النهضة العربية، 1977
([27]) د. رءوف عبيد: مبادئ الإجراءات الجنائية في القانون المصري صـ